من معاني العبودية
من معاني العبوديةوفي التحقيق بمعنى قوله: « إني عبدك » التزام عبوديته من الذل، وامتثال أمر سيده واجتناب نهيه، ودوام الافتقار إليه واللجوء إليه، والاستعانة به والتوكل عليه، وعياذ العبد به و عياذه به، وألا يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفاً ورجاء.
وفيه أيضاً أني عبد من جميع الوجوه صغيراً وكبيراً، حيًّا وميتاً، مطيعاً وعاصياً، معافى ومبتلى القلب واللسان والجوارح.
وفيه أيضاً أن مالي ونفسي ملك لك، فإن العبد وما يملك لسيده.
وفيه أيضاً أنك أنت الذي مننت عليَّ بكل ما أنا فيه من نعمة، فذلك كله من إنعامك على عبدك.
وفيه أيضاً أني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إلا بأمرك كما لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده، وأني لا أملك لنفسي ضرًّا ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فإن صح له شهود ذلك فقد قال إني عبدك حقيقة.
ثم قال: ْ « ناصيتي بيدك» ، أي أنت المتصرف فيَّ، تصرفني كيف تشاء، لست أنا المتصرف في نفسي، وكيف يكون له في نفسه تصرف من نفسه بيد ربه وسيده وناصيته بيده وقلبه بين أصبعين من أصابعه، وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كله إليه سبحانه ليس إلى العبد منه شيء، بل هو في قبضة سيده أضعف من مملوك ضعيف حقير ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له تحت تصرفه وقهره بل الأمر فوق ذلك.
ومتى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء لم يخفهم بعد ذلك ولم يرجهم ولم ينزلهم منزلة المالكين، بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرف فيهم سواهم، والمدبر لهم غيرهم، فمن شهد نفسه بهذا المشهد صار فقره وضرورته إلى ربه وصفاً لازماً له، متى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم ولم يعلق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته، ولهذا قال هود لقومه: «إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم» الآية: 56 من سورة هود.
وقوله: « ماض فيَّ حكمك عدل في قضاؤك» تضمن هذا الكلام أمرين:
«أحدهما:» مضاء حكمه في عبده.
«ثانيهما:» يتضمن حمده وعدله، وهو سبحانه له الملك وله الحمد. وهذا معنى قول نبيه هود: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها» الآية: 56 من سورة هود، ثم قال: «إن ربي على صراط مستقيم» الآية: 56 من سورة هود، أي مع كونه مالكاً قاهراً متصرفاً في عباده نواصيهم بيده، فهو على صراط مستقيم: في قوله وفعله، وقضاءه وقدره، وأمره ونهيه، وثوابه وعقابه، فخبره كله صدق، وقضاؤه كله عدل، وأمره كله مصلحة، والذي نهى عنه كله مفسده، وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته، وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله ورحمته.
الفوائد_الإمام شمس الدين أبي عبد الله بن قيم الجوزية
http://vb.mediu.edu.my/showthread.php?t=32286
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق